سورة المائدة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 5/ 57- 63].
قال ابن عباس مبيّنا سبب نزول هذه الآيات: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجل من المسلمين يوادّهما، فأنزل اللّه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ} إلى قوله تعالى: {بِما كانُوا يَكْتُمُونَ}.
نهى اللّه تعالى المؤمنين عن اتّخاذ أعدائهم أولياء، أي حلفاء وأنصارا، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنّبهم، وذلك اتّخاذهم دين المؤمنين ومشاعرهم هزوا ولعبا، أي سخرية وازدراء، ومظهرا من مظاهر اللعب والعبث، حتى وإن تظاهروا بالمودة والمحبة والعطف، كما قال اللّه تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)} [البقرة: 2/ 14].
وشدّد اللّه على قطع الموالاة، فأمر الناس المؤمنين بتقوى اللّه وخشية عذابه ووعيده على الموالاة مع الأعداء، إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده، وكل من الأمر بالتقوى والتذكير بالإيمان للتّنفير والتّحذير من أفاعيل الأعداء وشرورهم ومكرهم، وتنبيه النفوس إلى أن الإيمان الحق يقتضي البعد من العدو.
ومن أفاعيل الأعداء وسوء فعلهم ومظاهر شرّهم: أنكم أيها المؤمنون إذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان، اتّخذوا النّداء والصلاة هزوا ولعبا، فقالوا: قد قاموا لا قاموا، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفّون بها في وقت الأذان وغيره. وفعلهم هذا لأنهم لا يعقلون معاني عبادة اللّه وشرائعه، وهم أشبه بالشيطان الذي يفرّ ويدبر إذا سمع الأذان.
ولكنهم مع الأسف لا يقدّرون تأثير الأذان في القلوب، وتطهير النفوس وتزكيتها وربطها بعظمة اللّه وكبريائه، وتذكيرها بضرورة الخوف من اللّه في السّر والعلن.
ثم أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لأهل الكتاب: هل تعدّون ذنبا أو نقيصة إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب السابقة على الرّسل الكرام، والحق أنهم بهذا الهزء واللعب أكثرهم فاسقون، أي خارجون عن حدود الدين الصحيح والرأي السليم والعقل الرشيد. وليس لهم من الدّين إلا التّعصب والحقد، والمظاهر والتقاليد الجوفاء.
ثم أجابهم اللّه تعالى عن استهزائهم، فقل لهم يا محمد: هل أخبركم أيها المستهزئون بديننا، الواصفون ديننا بأنه شرّ، إنه لا شرّ ولا ضلال أشدّ من دين الملعونين الذين لعنهم اللّه وغضب عليهم بسبب سوء أفعالهم، وطردهم من رحمته، وغضب عليهم غضبا أبديا، وجعل منهم القردة والخنازير، وأطاع الشيطان، وعبد الأصنام والعجل، أولئك المتّصفون بتلك الصفات من الأجداد والأحفاد شرّ مكانا مما تظنون بنا لأن مكانهم النار، وهم أضلّ الناس عن طريق الاستقامة والاعتدال والحق الواضح.
وبلغ من سوء الأعداء وخاصة المنافقين منهم أن الكفر ملازم لهم، فإذا جاؤوا إلى الرسول والمؤمنين، قالوا: آمنّا بالرّسول وبما أنزل عليه، والحال أنهم دخلوا وهم كفار، وخرجوا كذلك، لم تنفعهم الموعظة، ولم يؤثر فيهم التذكير، واللّه أعلم بما يكتمون حين الدخول من النفاق، وعند الخروج من العزم على الكيد والمكر، فهم جميعا أغبياء وشذاذ. وترى أيها النّبي كثيرا من هؤلاء المستهزئين بدينك، يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي، ويأكلون السّحت (المال الحرام) فبئس الاعتداء اعتداؤهم، وقبح الفعل سوء فعلهم. ثم عاتب اللّه علماءهم على تقصيرهم، ووبّخهم على سكوتهم على الباطل، فهلا نهوا أتباعهم عن قولهم الإثم والكذب، وأكلهم الأموال بالباطل، تالله لبئس ما كان يصنع أولئك الأحبار (العلماء) من ترك النّصح والرّضا بالمنكر.
بعض أوصاف اليهود:
من المعلوم أن البشر جميعا هم عباد اللّه الذين خلقهم وأراد لهم الخير، ولا فرق بين إنسان وآخر، ولا فضل لأحد على آخر إلا بما يقتضي التفاضل ويستدعي التفريق. واليهود كسائر الناس ميزانهم بحسب أعمالهم وأفعالهم وما يظهرونه من طبائع قبيحة وخصال سيئة، والحكم عليهم بمقدار إساءتهم للخالق المعبود والمخلوقات البشرية.
قال اللّه تعالى مبيّنا بعض أوصاف اليهود الذميمة مع ربّهم ومع عباد اللّه:


{وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 5/ 64- 66].
سبب نزول الآيات ما قال ابن عباس- فيما أخرجه الطبراني وابن إسحاق- قال رجل من اليهود يقال له: النباش بن قيس للنّبي: إن ربّك بخيل لا ينفق، فأنزل اللّه: {وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}.
وفي رواية أخرى سمي الرجل بأنه فنحاص رأس يهود بني قينقاع.
هذه الآيات تعداد لألوان من الكبائر، ووصف لأقوال وأفعال في غاية القبح والإساءة، والخزي والجرأة على اللّه تعالى، وأشد هذه الأوصاف شناعة وسوءا وصفهم اللّه تعالى بما لا يتفق مع ميزان العقل، ويأباه الواقع المشاهد، إنهم وصفوا اللّه تعالى بأنه فقير وهم أغنياء، وأنه بخيل في تعبيرهم المجازي: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وهو مجاز عن البخل والإمساك، فردّ اللّه عليهم بالدّعاء عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} إنه دعاء عليهم بالبخل والنّكد والإمساك عن الخير، فكانوا أبخل خلق اللّه وأنكدهم، والرّد الواقعي: أن يدي اللّه مبسوطتان، أي هو الجواد الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء لأي مخلوق إلا عنده خزائنه ومنه الرزق وحده، فهو المنعم المتفضّل.
وتالله أيها النّبي ليزيدن ما أنزل إليك من آيات القرآن الواضحات طغيانا، أي تجاوزا للحدّ في الأشياء، وكفرا، أي تكذيبا، أي أن نعمة القرآن تكون نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم لأنها تكشف زيفهم وتفضح أوضاعهم، وكان من جزاء اللّه لهم على نكدهم وتمرّدهم إلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة، وإن تظاهروا بوحدة الصّف وتماسك الكلمة، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى، فلا يهمنّك أمرهم وتآمرهم، ولا تغتر بما هم عليه الآن في فلسطين المحتلة، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه في الخارج والداخل بإثارة الفتنة ومحاولة التفرقة وإثارة العداوة، وهم في مساعيهم يسعون في الأرض فسادا، فمن سجيّتهم وطبعهم دائما الإفساد لا الإصلاح، والتّهديم لا البناء، واللّه لا يحبّ المفسدين، وإنما يبغضهم ويعاقبهم ويسخط عليهم.
ثم فتح اللّه تعالى باب الأمل والتوبة والإصلاح أمامهم، فهم لو آمنوا بالله ورسوله، واتّقوا ما يتعاطونه من المآثم والمعاصي، لكفّر اللّه عنهم سيئاتهم التي اقترفوها، وأدخلهم جنات النعيم التي ينعمون بها. وهذا دليل واضح للبشرية جمعاء على أن العمل الصالح مع الإيمان الكامل سبب لرضوان اللّه وتوسيع الرزق، وزيادة النعم وإفاضة الخيرات، والتوفيق لسعادة الدنيا والآخرة.
ولو أنّهم نفّذوا تعاليم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم، لكفّر اللّه عنهم سيّئاتهم، وغاصوا في نعم اللّه من فوقهم وجوانبهم وتحتهم.
لكن من اليهود أو غيرهم جماعة معتدلة، تؤمن بما أنزل اللّه، ويحبون الخير، ولكن الكثيرين منهم فاسقون خارجون عن الطاعة، فبئس ما عملوا وكذبوا وحرّفوا، وأكلوا الحرام، وظلموا العباد.
تبليغ رسالة الوحي الإلهي:
الكتب الإلهية والوحي الرّبّاني نداء دائم من اللّه تعالى لعباده في أن يصلحوا أمرهم، ويوحّدوا ربّهم، ويقبلوا على اللّه بطاعته وعبادته، دون إهمال ولا تقصير، والرّسل الكرام الذين بعثهم اللّه تعالى مهمتهم تبليغ الرسالة الإلهية، وإقناع الناس بجدواها وضرورتها في حياتهم، وترغيب الناس بالعمل بها، وتحذيرهم من تعطيلها أو إهمالها.
والرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خاتم الرّسل والأنبياء جميعا، أمره ربّه بمهمة التّبليغ والبيان والجهاد في سبيل دعوته، فقال اللّه تعالى له:


{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} [المائدة: 5/ 67- 69].
نزلت آية الأمر بالتبليغ كما ذكر الحسن البصري رحمه اللّه حين قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إن اللّه بعثني برسالة، فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذّبي، فوعدني لأبلّغن أو ليعذّبني، فنزلت الآية: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ}.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أي آية من السماء أنزلت أشدّ عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس (أي لا يعلم ممن هم) فنزل علي جبريل فقال: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية، فقمت عند العقبة، فقلت: أيها الناس، من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي، ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللّه، وأنا رسول اللّه إليكم، تفلحوا، ولكم الجنة، قال صلّى اللّه عليه وسلّم: فما بقي رجل ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتّراب والحجارة، ويقول: كذاب صابئ، فعرض علي عارض، فقال: «اللّهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك»، فجاء العباس عمه، فأنقذه منهم، وطردهم عنه.
يأمر اللّه تعالى رسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بالتّبليغ على وجه الاستيفاء والكمال، والاستمرار والدوام في ذلك لأنه كان قد بلّغ وبدأ بإبلاغ الرسالة الإلهية إلى قومه، فقام بواجبه أتم القيام، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه اللّه خير الجزاء. والمعنى: أيها الرسول، بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربّك، لا تخش أحدا، ولا تخف من شيء، فإنك إن لم تبلّغ كل المنزل إليك، فما بلّغت رسالة اللّه، فالتّبليغ حتم لازم، وفوري لا يتأخر، ولا يجوز تأجيل شيء عن وقته. ولا داعي لأحد يحرسك، فالله يحميك ويحفظك من شرّ الناس، واللّه لا يوفق الكافرين للإساءة إليك، ولا يمكّنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.
قالت عائشة رضي اللّه عنها: من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم الفرية، واللّه تعالى يقول: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} الآية.
وقال عبد اللّه بن شقيق: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتعقبه أصحابه يحرسونه، فلما نزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} خرج فقال: «يا أيها الناس، ألحقوا بملاحقكم، فإن اللّه قد عصمني».
ثم أمر اللّه تعالى محمدا عليه الصّلاة والسّلام أن يقول لأهل الكتاب المعاصرين له:
لستم على شيء مستقيم حتى تقيموا وتطبّقوا التوراة والإنجيل في الأمر بتوحيد اللّه الخالص والعمل الصالح، والإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، والعمل بالقرآن، المنزل إليكم من ربّكم، ونحن المسلمون من باب أولى: لسنا على شيء أبدا حتى نعمل بأحكام القرآن.
ثم أقسم اللّه قسما مفاده أنه ليزيدن القرآن المنزل إليك من ربّك طغيانا أو تجاوزا للحدّ في الظلم على طغيان، وكفرا على كفر، بسبب الحسد الكامن، فلا تحزن يا محمد ولا تتأسّف عليهم، لزيادة طغيانهم وجحودهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي نصرة المؤمنين بك غنى عنهم. والقليل منهم يزيدهم القرآن هدى ورشادا وتوفيقا للسعادة.
والقانون العام الإلهي: هو أن اللّه تعالى يغفر لكل مؤمن، فالذين صدقوا بالله ورسوله وهم المسلمون، واليهود والصّابئون (فرقة من النصارى المحايدين) والنّصارى أتباع عيسى عليه السّلام، من آمن منهم بالله ربّا وإلها واحدا، وآمن برسله، وباليوم الآخر يوم القيامة، وعمل صالحا فأقام الطاعات، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب القيامة، ولا هم يحزنون أبدا على شيء من لذّات الدنيا ونعيمها، بل هم في جنّات النعيم، جعلنا اللّه منهم وألهمنا رشدنا وصوابنا.
علاقة أهل الكتاب برسلهم:
الأنبياء والرّسل عليهم السّلام مندوبون موفدون مكلفون من اللّه تعالى بتبليغ رسالات ربّهم وكتبه ووصاياه، فما على البشر إلا الأخذ بتعاليمهم وتصديقهم في دعوتهم، واحترامهم وتأييدهم جميعا، دون تفرقة ولا تمييز، ولا اختيار لأحدهم أو بعضهم وترك البعض الآخر. غير أن أهل الكتاب لم يلتزموا هذا الموقف المحايد، وإنما صدّقوا بعض الرّسل، وكذّبوا بعضهم الآخر، بل قتلوا فريقا منهم، أو وصفوه بصفة مخالفة للحقيقة، ومغايرة للواقع. قال اللّه تعالى مبيّنا هذا الموقف:

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10